بغداد/المدى
نشرت مجلة سنتينل لمكافحة الإرهاب الأمريكية تقريرًا يكشف صعود الميليشيات الإلكترونية في العراق، ويُبيّن كيف تحوّلت جماعات مسلحة إرهابية إلى قوة مهيمنة على الاقتصاد الرقمي.
كما يسلط التقرير الضوء على سيطرة هذه الجماعات على قطاع الاتصالات، واستخدامها البنية التحتية الرقمية لأغراض المراقبة والتحكّم والتمويل، ما يحوّل الإنترنت من أداة خدمة عامة إلى وسيلة سيطرة سياسية وأمنية، ويطرح مخاطر مباشرة على سيادة الدولة والمجتمع العراقي.
وأشار التقرير إلى تحوّل قطاع الاتصالات في العراق من مجرّد مرفق خدمي إلى هدف استراتيجي بالغ الحساسية، بعد أن أدركت الجماعات المسلحة المدعومة من الخارج أن السيطرة على تدفّق البيانات توازي في أهميتها السيطرة على حقول النفط. فالاتصالات تمنح القدرة على المراقبة، التنصت، تتبع الأفراد، والتحكم بالرأي العام، بل وحتى بيع سعات الإنترنت غير المستخدمة إلى جهات خارج البلاد مقابل عملات صعبة، ما يحوّل الشبكة إلى مصدر تمويل جديد للشبكات الخاضعة للعقوبات، ويكشف أن الاقتصاد الرقمي لم يعد مساحة تنمية، بل ساحة ربح أمني وسياسي موازٍ.
وأوضح أن هذا التحول لم يكن عشوائياً، بل استند إلى نموذج إيراني منظم تم تطويره منذ أوائل القرن الحالي بعد صدمة احتجاجات عام 2009، وتم تعميمه على الحلفاء في لبنان واليمن قبل نقله إلى العراق. يقوم النموذج على بوابة مركزية واحدة للإنترنت، وإحكام السيطرة على الجهات المشرفة على القطاع، بما يسمح بعزل الدولة رقميّاً عند الحاجة، وخنق الشبكة أو توجيهها سياسياً وأمنياً. هذه البنية تجعل الإنترنت أداة طيّعة بيد السلطة الموازية، وتحوّل الفضاء الرقمي إلى امتداد للهيمنة الأمنية.
وبين التقرير أنه في العراق، تسارعت عملية التطبيق بعد عام 2022، ومع تولي حكومة محمد شياع السوداني، حيث ظهرت وزارة الاتصالات وهيئة الإعلام والاتصالات كواجهات مؤسسية تُستخدم لتمرير قرارات تخدم القوى المسلحة، لا المصلحة الوطنية. لم يعد دور هذه المؤسسات تنظيمياً ورقابياً، بل أصبح تنفيذيّاً لصالح جهات مرتبطة بالإطار التنسيقي. بهذه الطريقة تحوّلت الدولة إلى أداة تُستخدم لإضفاء شرعية قانونية على عملية اختراق ممنهجة لمفاصل الاتصالات.
ولفت إلى أن من أخطر مظاهر هذه الهيمنة كان منح عقود استراتيجية لشركة “المهندس العامة”، التي تخضع عملياً لسيطرة قادة في الحشد الشعبي مرتبطين بكتائب حزب الله. وقد أكدت وزارة الخزانة الأميركية أنها تُستخدم قناة لتحويل الأموال من العقود الحكومية إلى هذه الجهات المسلحة عبر التعاقد من الباطن. هذا يعني أن مشاريع البنية الرقمية لم تعد مشاريع دولة، بل أدوات تمويل مباشر لقوى تقع خارج سيادتها المؤسسية، لكنها تُقدَّم على الورق كعقود رسمية قانونية”.
وأضاف التقرير أن الأخطر من الجانب المالي هو الجانب التقني، إذ تمنح هذه العقود الشركة وصولاً غير محدود إلى خزانات ومسارات الألياف الضوئية الوطنية الممتدة على طول الطرق الرئيسية. هذا الوصول يعني القدرة الفعلية على اعتراض البيانات ونسخ الإشارات والتحكم بها، وهو ما يحوّل شريان الإنترنت العراقي إلى جهاز مراقبة ضخم بيد فاعلين غير خاضعين للدولة. فكل اتصال، مكالمة، أو رسالة تمر عبر هذه الشبكة يمكن أن تقع في دائرة الرصد والفحص دون علم المستخدمين.
وتابع أنه لم تُمنح هذه العقود عبر مناقصات تنافسية كما هو المعتاد، بل جرى تمريرها بسرعة استثنائية بعد رسالة مستعجلة أرسلتها وزيرة الاتصالات في نيسان 2024 إلى مجلس الوزراء، بحجة زيادة الرقمنة والطلب على الإنترنت. تم تجاوز الإجراءات القانونية المعتادة، ولم تُذكر العقود حتى في محاضر المجلس المنشورة. هذه السرعة غير المسبوقة تكشف أن الدافع لم يكن تقنياً أو اقتصادياً، بل سياسي وأمني مرتبط بإحكام السيطرة على العمود الفقري للشبكة.
وشرح التقرير أنه بالتوازي مع السيطرة على الألياف الأرضية، ظهر خطر آخر يتمثل في تزويد هيئة الحشد الشعبي بمعدات اتصالات متقدمة، من بينها تكنولوجيا مرتبطة بمحطات اتصال فضائي عالية الحساسية. هذه المعدات، التي تحمل منشأ غربياً في بعض مكوناتها، وقعت بيد جهات مسلحة تبحث عن بناء شبكة مستقلة وآمنة بعيدة عن الرقابة الرسمية. وهذا يعكس مستوى الاختراق الذي بلغته الميليشيات داخل منظومة الاستيراد الحكومية والبنية التقنية العراقية.
وأردف أنه في تطور أخطر، تحولت تقنية الجيل الخامس إلى ساحة صراع جديدة. فالعراق الذي ظل عالقاً بين الجيلين الثالث والرابع سنوات، شهد فجأة سباقاً محموماً للسيطرة على الجيل الخامس بعد أواخر 2024. تسارعت الصفقات، وظهرت تحالفات مشبوهة تضم رجال أعمال مرتبطين بأحزاب الإطار التنسيقي، مع محاولة تغليف المشروع بواجهة استثمارية أجنبية لمنحه الشرعية. الهدف لم يكن تطوير الخدمة، بل احتكارها أمنياً وسياسياً.
وذكر التقرير أن الأمر وصل إلى درجة دفعت مختصين في الأمن الوطني إلى إصدار قرار بإيقاف عقد الجيل الخامس في أكتوبر 2025، لمنع تمرير الصفقة قبل الانتخابات العامة وتحول الحكومة إلى تصريف أعمال. هذا القرار يعكس إدراكاً رسمياً حتى داخل مؤسسات الدولة نفسها بحجم الخطر السيادي الكامن في تسليم شبكات الجيل الجديد لتحالفات ذات طابع ميليشياوي، لا تخضع لمساءلة وطنية حقيقية.
التقرير أكد في خلاصته أن العراق لا يواجه مجرد فساد إداري أو سوء إدارة قطاع، بل يواجه نموذجاً جديداً من الاحتلال غير المرئي. احتلال يعتمد على الكابلات والخوادم والهوائيات بدل الدبابات، وعلى البيانات بدل البنادق. وإذا استكمل هذا المسار دون ردع حقيقي، فإن الدولة العراقية ستفقد سيادتها الرقمية بالكامل، ويتحول شعبها إلى مجتمع مراقَب تديره شبكة ظل إقليمية تمتد من طهران إلى بغداد، وتتحكم بمصيره من خلال زر، أو خادم، أو شيفرة صامتة.